الاستخلاف بين التصريح والتلميح
مقدمة
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ مِنْ أَمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ.
قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحًا وهو:
سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّارِعَةَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ.
أخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، والطبراني عن معاوية رضي الله عنه، والبزار عن أنس وغيرهم.
أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن المطعم رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت، ولم أجدك. كأنها تقول الموت، قال صلى الله عليه وسلم: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ.
قال الشافعي: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه.
وأخرج الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال:
بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه سلم أن سله:
إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟
فأتيته، فسألته، فقال:
إِلَى أَبِي بَكْرٍ.
وهذا الحديث يكاد يكون صريحًا، فإن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة.
أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكَ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.
وهذا تصريح أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول ابن تميمة رحمه الله في منهاج السنة:
هذا نص جلي في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
لكنه لم يكتب كتابًا، لماذا؟!
يوضح ذلك ما جـاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي فيه مات: ادْعِي لِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَكْتُبُ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدِي. ثم قال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ.
وهذا الحديث يشير إلى خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بوضوح فهو أيضًا من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المسلمون فعلًا لم يختلفوا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما طرح اسمه للخلافة، بل إن الموافقة عليه من الصحابة كانت بإجماع لم يحدث في مكان على الأرض لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، فلم تثبت حالات اعتراض على خلافة الصديق رضي الله عنه، غير ما أشاعه المستشرقون، وغيرهم وسنرد عليهم لاحقًا إن شاء الله.
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت:
من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟.
وفي هذا تصريح إنه لم يستخلف أحد صراحة لا أبا بكر ولا غيره،
قالت: أبو بكر.
قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟
قالت: عمر.
قيل لها: ثم مَن بعد عمر؟
قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
وأبو عبيدة بن الجراح مات سنة 18 هجرية في ولاية عمر بن الخطاب، ولذلك لم يكن مرشحًا للخلافة عند استشهاد الفاروق رضي الله عنه سنة 23 هجرية.
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:
كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم وقال:
يَا بِلَالُ إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَمْ آتِ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فلما حضرت صلاة العصر، أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر، فصلى.
ثم في رواية البخاري قال سهل بن سعد رضي الله عنه:
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص- أي شَقّ الصفوف- حتى وقف في الصف الأول، فصفق الناس.
يريدون أن يلفتوا نظر الصديق رضي الله عنه إلى وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول سهل بن سعد رضي الله عنه:
وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمكث مكانك.
بل إنه في رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعه ليتقدم للإمامة.
فرفع أبو بكر الصديق يديه فحمد الله، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، فلما انصرف قال:
يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟
فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَالِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قِحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفٌ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرَبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ.
أي سقوا إبلهم، ثم آووها إلى عطنها، وهو الموقع التي تستريح فيه الإبل. فهذا مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما، وظهور أثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام ومهد أموره، وأوضح أصوله، وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأنزل الله تعالى:
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}.
ثم توفى صلى الله عليه وسلم، فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهرًا وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم
ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ.
وحدث في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام، ثم توفى، فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله.
فعبر صلى الله عليه وسلم بالقليب عن أمر المسلمين، لما فيه من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقى لهم، وسقيه هم قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم، وهذا فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ لم يمكث أبو بكر رضي الله عنه إلا سنتين، وأشهر قليلة، ومكث عمر فترة طويلة، ولذلك:
نَزَعَ نَزْعًا لَمْ يَنْزِعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ.
الصديق يصلي بالناس
نأتي إلى حديث هام، وهو من أهم الأحاديث التي أشارت إلى استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو الحديث الذي أمر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس أيام موته، فظل يصلي بهم عشرة أيام والرسول صلى الله عليه وسلم ما زال حيًا، ولكن يمنعه المرض من القيام:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذن لها، فقال:
مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فقالت له السيدة عائشة:
إن أبا بكر رجل أسيف- أي شديد الأسف والحزن، وفي رواية: رجل رقيق- إذا قام مقامك لم يستطع أن يُسمع الناس.
فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر مرة ثانية،فردت عليه نفس الرد، فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مصرًا على رأيه، فطلبت السيدة عائشة من السيدة حفصة أن تعيد للمرة الثالثة فقال: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ.
وهو صلى الله عليه وسلم يقصد عائشة رضي الله عنها، ويقصد بصواحب يوسف امرأة العزيز حيث دعت النساء إلى رؤية يوسف عليه السلام بفرض أن يعذروها في حبها له، لكن الظاهر من الدعوة الإكرام في الضيافة، وكذلك موقف السيدة عائشة، ثم حفصة بأمر عائشة، ظاهره أن أبا بكر رجل أسيف، لكن باطنه أن السيدة عائشة لا تريده يصلي بالناس لكيلا يتشاءم الناس به إذا وقف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر على ذلك، وقال: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فخرج أبو بكر فصلى، ثم تكمل السيدة عائشة، كما جاء في البخاري، فتقول: فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يُهَادى بين رجلين- العباس وعلي رضي الله عنهما - كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه- وفي رواية إلى يساره وهو مقام الإمام- قيل للأعمش أحد رواة الحديث: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فقال برأسه نعم.
يعني في هذه الصلاة بدأ أبو بكر الصلاة إمامًا، ثم لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبح هو الإمام إلى آخر الصلاة.
والذي يدعونا إلى قول أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت لا تريد أبا بكر أن يصلي بالناس خشية أن يتشاءم به الناس، ما جاء في كلامها هي في البخاري أيضًا حيث قالت: لقد راجعته، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا.
ولعل السيدة عائشة أرادت من هذا التردد أشياء أخرى في غاية الأهمية، منها على سبيل المثال أن تنفي عن نفسها تهمة التآمر على توصيل الصلاة، ومن ثم الخلافة إلى أبيها، وقد حدث وطعن الطاعنون فيها بعد ذلك رغم هذا التردد، ومنها أن تشهد حفصة بنت عمر رضي الله عنها على هذا الأمر، لأن عمر بلا جدال هو المرشح الثاني للخلافة، وقد يختاره الناس رغم فضل أبي بكر عليه، وذلك لقوته، وحسن إدارته، وسطوته على الكفار، والمنافقين، فهي بذلك أشهدت أولى الناس بالشهادة، حتى يعلم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنها بذلك أظهرت بما لا يدع مجالًا للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مترددًا في أمر إمامة أبي بكر الصديق، وأنه كان حاضر الذهن عندما عهد له بذلك، وأبى أن يقوم غيره في هذا المقام، وسواء كانت السيدة عائشة تقصد هذه الأمور، أو لا تقصدها، فإنه من فضل الله على هذه الأمة أن تحققت هذه الأمور بالفعل، وظهر واضحًا لعموم المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد للصلاة إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
هذا الموقف من أقوى الأدلة على رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستنبط منه ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال:
رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا.
كما روى الحاكم في مستدركه؛ أي رضيه للصلاة فرضيناه للخلافة.
أيضًا استنبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق وذلك يوم السقيفة، يوم قال للأنصار:
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى.
قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.
روى ذلك النسائي والحاكم.
وظل أبو بكر يصلي بالناس طوال فترة مرض الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة مرة أخرى، فقد أقعده المرض عن ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرًا على أن لا يشارك أبا بكر أحد من المسلمين في الإمامة كي لا يختلط الأمر على المسلمين بعد ذلك.
يروي أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال:
لما اسْتُعِزّ برسول الله صلى الله عليه وسلم- أي اشتد به المرض- وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال:
مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ.
وهنا لم يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم باسم أبي بكر أو غيره، يقول: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبًا، فقلت:
يا عمر قم فصل بالناس.
وواضح أن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الذي يجب أن يصلي بهم هو أبو بكر، لكنه لم يكن موجودًا، فليكن عمر، يقول عبد الله بن زمعة رضي الله عنه:
فتقدم عمر فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلًا مجهرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ.
فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله زيادة حيث جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وقال له- بعد الصلاة لما سمع غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم-:
ويحك ماذا صنعت بي يا ابن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. فقال عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
هذا الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد إنه يريد أبا بكر لذاته، وإلا فالصلاة صحيحة، وعمر من أفاضل الرجال، بل هو أفضلهم بعد أبي بكر الصديق، ولكن في هذا المقام أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يلتبس الأمر أبدًا على المسلمين بعد وفاته، فلا يختلفون على الصديق رضي الله عنه.
تعليقات مهمة على إمامة الصديق للناس في الصلاة
الرشيد يستفسر من ابن عياش
ومن ألطف التعليقات على قضية إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمسلمين في أثناء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عدي رحمه الله عن أبي بكر بن عياش، وهو من العلماء في زمان الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله، قال: قال لي الرشيد:
يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟
يبدو إنه كانت هناك بعض الأمور المبهمة، أو الغامضة في ذهن الرشيد، فيريد أن يتأكد، فقال أبو بكر بن عياش رحمه الله:
يا أمير المؤمنين، سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون.
قال الرشيد: والله ما زدتني إلا غمًا.
يعني لم أفهم ما تقصد، فقال أبو بكر بن عياش:
يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام، فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله من يصلي بالناس؟
قال: مُرْ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ.
فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام، والوحي ينزل، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله.
أي أنه لو إن الله يريد غير أبي بكر لأخبر رسوله عن طريق الوحي، ولكن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر كان اختيارًا يرضي الله عز وجل.
وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأعجب ذلك الرشيد رحمه الله وقال: بارك الله فيك.
أبو الحسن الأشعري يعلق أيضًا
من التعليقات اللطيفة ما علق به أبو الحسن الأشعري رحمه الله على مسألة تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الصلاة حيث قال: وتقديمه له، أي تقديم أبي بكر في الصلاة، أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن الصحابة جمعيًا علموا هذا الأمر، وقبلوا أبا بكر إمامًا لهم وتواتر ذلك عنهم، ثم قال الأشعري رحمه الله:
وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة، وأقرؤهم، لما ثبت في الحديث المتفق عليه صحة بين العلماء:
يَؤُمُّ الْقَوْمُ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا.
أي إسلامًا، هذا لفظ الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وفي رواية أخرى:
أَكْبَرْهُمْ سِنًّا بَدَلًا مِنْ أَقْدَمُهُمُ سِلْمًا.
يعلق ابن كثير رحمه الله على كلام الأشعري رحمه الله بقوله:
وهذا كلام من الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وهناك تعليقات من بعض الصحابة، والعلماء على استخلاف الصديق رضي الله عنه ومنها
رأي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقبل أن نذكر رأيه نقدم له بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
روى الترمذي وحسنه كذلك الإمام أحمد، وصححه الألباني ،عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي- وأشار إلى أبي بكر وعمر- وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ.
ماذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال فيما رواه الحاكم وصححه:
ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيئ، وقد رأى الصحابة جمعيًا أن يستخلفوا أبا بكر.
أي أن استنباط ابن مسعود أن هذا ليس فقط حسن عند المسلمين، بل حسن كذلك عند الله عز وجل.
- وأخرج البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال:
أجمع الناس على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه اضطر الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي اضطروا إلى أن يجعلوا عليهم قائدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرًا من أبي بكر، فولوه رقابهم.
- يقول معاوية بن قرة رحمه الله- وهو من التابعين-:
ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلال.
- قال الخطيب البغدادي رحمه الله:
أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسم أحد بعده خليفة.
خلافة الصديق في القرآن
بعض العلماء استنبطوا من بعض آيات القرآن الكريم أحقية أبي بكر الصديق بالخلافة واستنبطوا أن خلافته كانت خلافة حق:
- علق أبو بكر بن عياش رحمه الله على الآية الكريمة:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8} .
قال أبو بكر بن عياش رحمه الله:
من سماه الله صادقًا ليس يكذب، والمهاجرون قالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خليفة حقًا لا يكذبوا.
علق ابن كثير رحمه الله على هذا الاستنباط فقال: استنباط حسن.
- وقال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره للفاتحة أن قوله عز وجل:
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ] {الفاتحة:6،7} .
فيه إشارة إلى اتباع الصديق رضي الله عنه، ومن ثَم استخلافه، قال:
إن الله يأمرنا أن نطلب الهداية إلى طريق الذين أنعم عليهم الله، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟
فسرها ربنا في سورة النساء يقول:
[وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] {النساء:69} .
فهذه هي الأنواع التي أنعم الله عليها، والتي أمرنا الله بطلب الهداية إلى طريقها، ولم يعد هناك أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم أن نكون مع الصديقين.
ويقول الرازي: إنه لا شك أن الصديق رضي الله عنه هو رأس الصديقين ورئيسهم، ومن ثَم فإننا أمرنا أن نتبعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وقال الحسن البصري رحمه الله فيما رواه البيهقي في قوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54}.
قال الحسن البصري:
هو والله أبو بكر وأصحابه، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الإسلام.
- وقال قتادة تعليقًا على نفس الآية:
كنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه.
- وهناك آية علق عليها كثير من العلماء تعليقات كلها تشير إلى خلافة الصديق رضي الله عنه، هذه الآية في سورة الفتح هي:
[قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفتح:16} .
فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مكة في عام الحديبية نزل فيهم هذا القول من الله عز وجل، يقول فيه الله عز وجل لهم: ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون، فالله عز وجل سوف يعطيهم فرصة أخرى للخروج للجهاد، بعد تخلفهم في الأمر الأول، وبعد نفاقهم، وقولهم شغلتنا أموالنا وأهلونا، إذن سيدعي هؤلاء إلى قتال شديد سيأتي بعد من الحديبية.
من الذي يدعوهم إلى هذا القتال؟
قال القرطبي رحمه الله والزمخشري في الكشاف وأبو الحسن الأشعري رحمه الله:
إن الداعي لهم ليس النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القوم الذين سيدعون لقتالهم ليسوا هوازن وثقيف كما قال بعض المفسرين، والذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين والطائف، لماذا؟؟
لأن الله عز وجل أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين المخالفين الذين لم يشتركوا معه في القتال:
[فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ] {التوبة:83} .
إذن أُمر رسول الله عز جل أن لا يدعوا هؤلاء المخلفين إلى القتال، فمن هم يا ترى القوم ألو البأس الشديد، هم بنو حنيفة أهل اليمامة، وأتباع مسليمة الكذاب، ومن ثم فإن الذي دعا إلى قتالهم هو الصديق رضي الله عنه، فلزم أن يكون هو الخليفة الصحيح في هذا الوقت، يقول رافع بن خديج رضي الله عنه إننا كنا نقرأ هذه الآية:
[سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ] {الفتح:16} .
فلا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم، قال ابن أبي حاتم وابن قتيبة رحمهما الله: هذه الآية حجة على خلافة الصديق، لأنه الذي دعا إلى قتالهم، وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: سمعت أبا العباس بن شريح رحمه الله يقول:
خلافة الصديق رضي الله عنه في القرآن من هذه الآية، لأن أهل العلم أجمعوا على إنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبي بكر للناس إلى قتال أهل الردة، ومن منع الزكاة، فدل ذلك على وجوب خلافة أبي بكر وافتراض طاعته، إذ أخبر الله عز وجل أن المتولي عن ذلك يعذب عذابًا أليمًا.
أما عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وعطاء الخرساني رحمهم الله جميعًا فقد قالوا:
إن القوم أولي البأس الشديد المقصودين في الآية هم فارس، ومن المعروف أيضًا أن الذي دعا لقتالهم وفتح فارس هو الصديق رضي الله عنه، فكما يقول ابن كثير رحمه الله فهي أيضًا دالة على خلافة الصديق رضي الله عنه.
أما كعب والحسن رحمهما الله فقالا: إن المقصود بالقوم أولي البأس الشديد: الروم، وسبحان الله، أيضًا الذي دعا إلى قتال الروم هو الصديق رضي الله عنه.
فعلى أي تفسير لهؤلاء القوم فالصديق هو الخليفة المقصود، فأي شرف، وأي فضل، وأي قدر، الزعيم قد يخلد ذكراه، ويمجد تاريخه بالدعوة إلى حرب قوم أولي بأس شديد بني حنيفة، أو فارس أو الروم، أما أن يدعوا إليهم جميعًا فهذا هو المجد بعينه، وهذا هو الشرف بعينه، ولا يكون هذا إلا الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
- آية أخرى من آيات الله عز وجل قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره إنها منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه، وعلى خلافة الثلاثة من بعده، يقول الله عز وجل في سورة النور:
[وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55} .
يقول ابن كثير رحمه الله:
فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف، والتمكين في أمر أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، دل ذلك على أن خلافتهم حق.
*وبعد فهذه مجموعة من الأحاديث، والآيات وهناك غيرها من الأحاديث التي أعرضت عنها إما لتكرارها أو لضعفها، كل هذه الأحاديث والآيات تشير إما قريب أو بعيد إلى رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه.
موقف العلماء من هذه الأحاديث والآيات
ينقسم إلى نوعين ليس بينهما خلاف كبير، الكل يتفق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرغب في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولكن الخلاف بينهما في هل كان ذلك بالنص الجلي الصريح، أم بالنص الخفي والإشارة:
- فمن العلماء مثل ابن حزم الظاهري رحمه الله فقد قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر بالنص الصريح الجلي، واستشهد بأحاديث مثل حديث المرأة الذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ.
وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة:
ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُول قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.
وبحديث الرؤيا التي على القليب ورؤيا الأنبياء حق، وغير ذلك من الأحاديث.
- أما الطائفة الأخرى من العلماء فقد قالت أن استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق كان بالإشارة والنص الخفي، وليس صريحًا، ينسب هذا القول مثلًا إلى الحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وابن تميمة، وطائفة كبيرة من أهل الحديث، وهذا هو الرأي الغالب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يصرح فيقول إذا مت فليكن أبو بكر من بعدي، هكذا بوضوح، والأمر ليس أمرًا ثانويًا في حياة المسلمين حتى يتعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بهذا الأسلوب الغير المباشر، إذن كانت هناك حكمة نبوية من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصرح باستخلاف، وترك الأمر لمجرد الإشارة، وكان هناك رضا من الله عز وجل على هذا التلميح دون التصريح لأن كل أمور الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عن طريق الوحي فكيف بهذا الأمر الخطير،
يؤكد هذا المعنى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحًا، ما جاء في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته، فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال عمر:
إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني- يعني أبا بكر- وإلا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويؤكد على هذا أيضًا ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها في أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟
إذن هو لم يستخلف.
فإذن كان الحق أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فلماذا لم يصرح صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف واكتفى بالإشارة فقط؟
لماذا لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أمرًا مباشرًا بتعيين أبي بكر خليفة؟
الحكمة في ترك المسلمين دون تصريح باسم الخليفة
بالطبع فإن الحكمة الإلهية الكاملة وراء هذا الحدث لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولكننا نجتهد في فهم هذا الموقف وفق المعطيات التي معنا، والذي يبدو لي:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصرح بذلك حتى يترك المسلمون يدبرون أمرهم في غيابه هو صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لا يتلقون وحيًا، وليس لهم عصمة، ماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الآن بوضوح؟ لكانت النتيجة إنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدث في سقيفة بني ساعدة، وما فائدة هذا الحوار؟
لقد تعلم المسلمون في هذا الوقت وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟
وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه القضايا؟
وكيف يمكن قبول وجهات النظر المختلفة؟
وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟
وما هي حدود الشرع ما الذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟
وما هي صفات الخليفة المنتخب؟
وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره؟
ماذا يحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار لهم أبو بكر بالتصريح؟
كان أبو بكر سيتولى أمور المسلمين إلى أجل ثم يموت، فماذا يفعل المسلمون بعد موته؟
وكيف يختارون الخليفة الجديد وليس بين أيديهم رسول يختار لهم؟
لقد اكتمل نمو الصحابة رضوان الله عليهم، وحان وقت الفطام عن الوحي والعصمة، وآن لهم أن ينطلقوا في الحياة بالكتاب والسنة، دون رسول حي بين أظهرهم، إذا كان سيكتب على المسلمين أن يختاروا في يوم من الأيام خليفة بمفردهم، فليكن هذا الجيل الراقي الرائع النقي التقي الورع العاقل الحكيم من الصحابة هو الذي يختار، حتى يعطي القدرة والمثل لمن بعدهم، هذا أول ما يبدو لي في هذا الأمر.
ثم أمر آخر ألاحظه:
2- هو أنه لو فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المسلمين فرضًا بالتصريح، لكان لزامًا عليهم أن يقبلوا به حتى وإن لم ترضى نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟
في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كان القوم يخضعون عند الاختلاف إليه، وذلك لمكانته صلى الله عليه وسلم العظيمة في قلب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم أنه معصوم صلى الله عليه وسلم، أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جدًا أن يحدث اختلاف في الرأي لا يَرُد بوحي لا عصمة، وهنا سيقول الناس هو رجل- أي الخليفة- ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل على المسلمين دون اختيارهم سيسبب ضعفًا في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخابًا حقيقيًا من شعبه وأتباعه فإنه يعطي قوة لا مثيل لها، فالجميع يرضى له والجميع يستمع لرأيه، بل الجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراء والتباس الأمور، بل قد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أوتوا به حقيقة إلى هذا المكان.
إذن فالانتخاب الحقيقي الذي قام به المسلمون لأبي بكر أعطى له قوة حقيقية، وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطى له شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ، أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث، ومهما تغيرت الظرف، وقد شاهدنا هذا بأعيننا بعد ذلك في حياة الصديق رضي الله عنه كخليفة، فكم من الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كانت من الممكن أن لا تلقي هوى في قلوب الناس، أو اقتناعًا في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم، وعلى بصيرة، وثقة في إمكانياته، وإيمانًا بقدراته، فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة، أو ضجر، أو تقصير في الاتباع.
3- الأمر الثالث الهام في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرض أبا بكر فرضًا على الأمة: أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسي قاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحًا من ورائه، لكانت سنة قد تطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفة مهما كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خير القرون وإنه سيأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فإن جعل الأمر في يد رجل واحد يستخلف رجلًا آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل عدم الدراية في الاختيار، ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو صلى الله عليه وسلم بعدم استخلافه على العكس من ذلك ، قد أرسى سنة أن يجتمع المسلمون ويختارون من بينهم من يصلح لهذا الأمر،
وقد يقول قائل إن أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف عمر بن الخطاب دون انتخاب، فالرد على ذلك أنه لن يوجد في أجيال المسلمين من هو في قدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد استشار كبار الصحابة في هذا الأمر، ولم يكن هناك من بعد أبي بكر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أنه كانت رغبة واضحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون عمر بعد أبي بكر في الخلافة فما أكثر الأحاديث التي رتبت الخليفتين العظمين بهذا الترتيب، وليس المجال هنا لذكرها، ثم- وهذا هو الأهم- لم تصح خلافة عمر، إلا بعد أن بايعه الناس بعد وفاة الصديق رضي الله عنهما، ولو لم يبايعه الناس لوجب اختيار خليفة آخـر يرضى عنه الناس.
ثم مرت الأيام، وقربت منية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرر أن يجعل الأمر بالانتخاب بين المسلمين، وما أراد أن يستخلف مع علم الجميع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أفضل الصحابة، بعد العملاقين الكبيرين أبي بكر وعمر، ومع ورود أحاديث كثيرة ترتب عثمان بعد أبي بكر وعمر مباشرة، ومع كون عثمان يزن أمة المسلمين إذا خلا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، مع كل هذا إلا إن عمر بن الخطاب أراد أن يرسي قاعدة الانتخاب، وكان يعلم أن الأمر سيئول إلى عثمان بن عفان لعظم قدره بين الصحابة.
وبالفعل هذا ما حدث، وعندما مر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على كل أهل المدينة يرى من يختارون عثمان أم علي، بعد انسحاب بقية الستة المرشحين للخلافة، وجد إجماعًا من عامة المسلمين إلا قليل القليل على اختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه خليفة للمسلمين، المهم أن القاعدة أرسيت وعلمت بذلك طرق اختيار الخليفة في الإسلام، فإما عن طريق الانتخاب، وهذا أفضل، وإما عن طريق الاستخلاف، وهذا جائز، وإن كان لا يكتمل إلا بموافقة الناس.
إذن هذه أمور ثلاثة ذكرناها لعلها تشير إلى حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التصريح بخلافة أبي بكر الصديق، وترك ذلك للمسلمين والاكتفاء بالإشارة، هذه الأمور بإيجاز هي:
- إعطاء الفرصة للمسلمين؛ كي يديروا حياتهم بمفردهم دون وحي، واستغلال وجود أفضل جيل على الأرض؛ ليقوم بهذه المهمة لإعطاء القدوة لمن بعدهم.
- إعطاء القوة والشرعية للخليفة المنتخب من قبل شعب المسلمين، بدلًا من فرضه على الناس دون انتخاب حقيقي.
- إرساء قاعدة الانتخاب، وتجنب قاعدة الاستخلاف قدر المستطاع، حيث إن الهوى قد يتحكم بها، وبالذات عند اختفاء الأفذاذ من الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان.
ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته بالأمة، فهو يريد لها ما يصلح شأنها، وبالذات بعد مصيبة وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن خير الأمة سيكون في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقوم بأمر وسط يمزج فيه بين الاستخلاف وعدم الاستخلاف، ويقدم أمرًا يشبه الاقتراح، وليس الفرض، وبذلك تتحقق قاعدة عدم الاستخلاف، وترسى قاعدة الانتخاب، وفي نفس الوقت ينتخب من أراده صلى الله عليه وسلم، وفي هذا حكمة متناهية وصدق الله العظيم إذ يقول:
[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3،4} .
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث خطوات رئيسية لضمان هذا الاستخلاف دون تصريح:
خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم لضمان استخلافه
أولًا: قال صلى الله عليه وسلم: الْأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ.
وبذلك ضَيّق إلى حد كبير قاعدة الانتخاب، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لو كان الأمر في قريش فهو، ولا بد سيئول إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه لمكانته.
ثانيًا: أراد التأكيد على استثناء الأنصار؛ لأنه قد يحظر ببالهم كما ذكرنا من قبل أنهم أصحاب البلد، والذين نصروا الدين وأقاموا الدولة، فيجب أن يكون الخليفة منهم، فأراد أن يؤكد على استثنائهم، ولكن بأسلوب حكيم لا يجرح شعورهم، ولا يقلل قيمتهم، فقام بحكمة رائعة يوصي الناس بالأنصار، ولو كانوا خلفاء ما احتاجوا وصاية، ولكنه يشير إلى أن الخلافة لن تكون فيهم، فيجب على ولي الأمر أن يستوصي بالأنصار خيرًا، وأكثر من مثل هذه الأحاديث وخاصة عندما قربت منيته صلى الله عليه وسلم، وكان في مرض الموت حتى يؤكد على هذه الحقيقة.
مثال ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار رضي الله عنهم وهم يبكون، فقال:
ما يبكيكم؟
قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا.
وكان هذا في مرض الرسول صلى الله عليه وسلم الأخير، فهم يبكون لإحساسهم أنهم سيفارقون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال:
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي.
يقصد أن الأنصار بطانتي وموضع سري.
وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ.
والأنصار قضوا ما عليهم: وهو ما كان في بيعة العقبة الثانية، كما يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وهو إيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصرته.
وبقي الذي لهم: وهو الجنة، فما هي إلا أيام قليلة في الدنيا ويلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعلى من يتولى أمور المسلمين أن يقبل محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
أيضًا في نفس هذا المعنى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء (أي شد رأسه بعصابة لونها كلون الدسم أي الدهن)، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ.
وانظر إلى روعة التشبيه، فهم سيقلون جدًا ليصبحوا كنسبة الملح في الطعام ومع ذلك، فإن الملح شيء لا غنى عنه في الطعام.
ثم يكمل صلى الله عليه وسلم فيقول:
فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا، وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ.
وهذه إشارة واضحة بأن الذي سيلي أمور المسلمين ليس من الأنصار.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
فكان آخر مجلس جلس به النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: أشار في أحاديث عديدة، كما ذكرنا لرغبته في استخلاف الصديق رضي الله عنه، وبذلك مهد الطريق للمسلمين ليختاروا عن طريق الانتخاب أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
وقفة وسؤال:
هل كانت كل هذه الإشارات، والمواقف، والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حق الصديق رضي الله عنه في الخلافة؟ أم إن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟
الحقيقة أن الأمرين معًا كانا مقصودين:
الأمر الأول: هذا حق الصديق رضي الله عنه لفضله، ومكانته، وقدراته، وكفاءاته، ولا يجب أن يولي غيره في وجوده.
والأمر الثاني الهام جدًا: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه دون غيره.
خلافة الصديق كانت رحمة بالأمة
كان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتغيير في نسق الحياة، والإدارة، والمعاملة، قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة، فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس، والتخبط، وعدم توقع خطوات المستقبل.
و الصديق رضي الله عنه لطول صحبته لرسول اله صلى الله عليه وسلم، ولقدم العشرة حتى قبل نزول الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرورًا بفترة مكة، والهجرة، وكل المشاهد، والغزوات في المدينة، كان يعرف كل دقائق حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته، وخاصة وأن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في كثرة اللقاءات بينهما، حتى أنه كثيرًا ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العِشاء يتبادلان الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع الصديق رضي الله عنه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره، ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء.
فوق هذا الاطلاع على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الصديق تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتفاء آثاره قدر الوسع، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل قبل ذلك.
إذن هو امتلك الرغبة، والعلم الذي يؤيد هذه الرغبة، ومن ثَم كانت حياته رضي الله عنه امتدادًا طبيعيًا جدًا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما شعر المسلمون بتغير ملموس في أساليب الإدارة، والمعاملة، والاختيار بين الآراء، وما أحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان حيًا لفعل أو رأى غير ما فعل أو رأى الصديق رضي الله عنه، كيف لا وهو الذي قال صلى الله عليه سلم: اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وقال: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي.
فهو صلى الله عليه وسلم كما أطلعه الوحي يعلم أن الخلفاء الراشدين لن يغيروا بعده، وسيختارون من الرأي والفعل ما يرضي الله ورسوله.
ثانيًا: كان اختيار الصديق رضي الله عنه خليفة للأمة فيه مصلحة أخرى كبير، وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة، وكارثة مروعة، وهي مصيبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكارثة انقطاع الوحي، وتحتاج في هذه المصيبة إلى الرحمة، لا الشدة، وإلى الرفق، لا العنف، ومَن أرحم بالأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الصديق رضي الله عنه؟
لا نقول نحن ذلك، بل قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والترمذي، وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ.
فرحمة الله عز وجل بهذه الأمة اقتضت أن يتولى أمورها أرحمها، وهو الصديق رضي الله عنه.
ثالثًا: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضًا أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتًا، وأرسخهم قدمًا، فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالًا عظامًا، وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيرًا من التجمعات، والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، من يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟
من أشد الصحابة ثباتًا وعزيمة؟
من أكثرهم يقينًا في وعد الله بالنصر؟
من أعظم الصحابة غيرةً على الدين؟
إنه الصديق ولا شك في ذلك، ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتًا في كل المواقف، والمشاهد، والأهوال، ظل ثابتًا في الردة، ظل ثابتًا أمام فارس، وظل ثابتًا أمام الروم، ما لانت له قناة وما اهتز له جفن.
- يروي لنا البيهقي بسند صحيح كما ذكر ابن كثير رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلف ما عُبِد الله.
ثم قال ثانية، ثم قال ثالثة، أي كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له:
مه يا أبا هريرة- أي كفاك ما قلت- إنه لقول عجيب.
فأخذ أبو هريرة يسرد أحداثًا يبرهن بها على صدق مقولته، قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب (مكان قريب إلى المدينة) ق